فصل: 1 - ألفاظ القرآن وحروفه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.القسم الثاني: (إعجاز القرآن:)

الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين، ولأخبار مستقبلة، وقعت كما ذكر، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أتى بها القرآن، وتقرَّرت حقائقها من بعد، وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنساني أنَّها أصلح من غيرها، وأنها وحدها العادلة، وأنَّ هذا النوع معجزة للأجيال كلها، وهو يحتاج في بيانه إلى مجلدات ضخام، ولذلك نتَّجِه ابتداء إلى القسم الخاص بالبلاغة، وهو الأول.

.الإعجاز البلاغي:

41 - أخذنا أولًا من أسباب الإعجاز ذلك السبب؛ لأنه الواضح بالنسبة للعرب، لأنه هو الذي شدَّه به العرب عند أول نزوله فحيَّرهم، وهم المدركون لأساليبه العارفون لمنهاجه، الذين يذوقون القول بأسماعهم ويدركونه بعقولهم، ويعرفون مواضع الكمال، ومواضع النقص في كل ما يسمعون من شعر، حتى إنَّهم يتجهون إلى مواضع الحسن، والمآخذ التي تؤخذ بلقانة فطروا عليها، ولباقة عرفوا بها.
ولنسق لك مثلًا من نقدهم، فلقد عرض بيتان في سوق عكاظ على الخنساء لحسان بن ثابت رضي الله عنهما، فلمحت بقوة الملاحظة الناقدة ما فيها من عيوب تخفى إلا على من يذوق الكلام ذوقًا، ويدرك معانيه وألفاظه بأرب وفكر مستقيم.
قال حسان رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغير يلمعن بالضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق ** فأكرم بنا خالًا، وأكرم بنا ابنما

فقالت الخنساء: ضعَّفت افتخارك، وأنزرته في ثمانية مواضع، قالت: قلت لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت البيض لكان أكثر اتساعًا. وقلت: يلمعن، واللمعان شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأنَّ الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف أكثر طروقًا بالليل، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون العشرة، ولو قلت سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدلَّلت على قلة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثر لأنصباب الدم، وقلت دمًا، والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك أهـ.
سقنا ذلك الخبر، وهو صورة لما كان عليه الذوق البياني، وإن كان هنالك شك في روايته، فإنّه يدل على أن روح النقد بالذوق المرهف كان مشهورًا بين العرب وكثيرًا.
وأذكر أن نقَّاد العرب كانوا يستنكرون بيت امرئ القيس الذي يقول فيه في معلقته:
أغرك مني أن حبك قاتلي ** وأنك مهما تأمري القلب يفعل

فقد قالوا: إنَّ البيت لا يصدر من عاشق برح به الحب، وأحس بلطف العشق، وقالوا: إن الغانية إذا لم تعتز بالحب ففيم تعتز، كأنه يقول لها: إن كنت مغرورة بحبي فإني تاركك، وهكذا، وما ذلك شأن المحب اللهج.
42 - هؤلاء الذواقون للبيان الذين مرنت أسماعهم وألسنتهم على القول البليغ وإدراك مراميه، يستوي في ذلك أهل المدر وأهل الوبر، فأهل الوبر استفرغوا ذكاءهم في تعرف الكلام البليغ، والترنُّم بالشعر رجزه وقصيده، ولم يكن عندهم ما يزجون فيه وقتهم إلَّا سماع الكلام الطيب، وترديده، وروايته ونقله، ويرطبون به ألسنتهم في حلهم وترحالهم، وانتجاعهم إلى مواطن الكلأ وينابيع المياه، قد صفت نفوسهم صفاء السماء التي تظلهم، مع قوة الشكيمة التي اكتسبوها من وعورة الصحراء ولأوائها، وقسوة الحياة وغلظتها، ومع الرضا والقناعة التي اتسمت بها النفس العربية.
وأهل المدر وهم سكان القرى كأهل مكة والطائف ويثرب، وقد كانوا قومًا تجرا. من غير أن يخلوا من الشكيمة العربية، وقد كانت القبائل تجيء إليهم، أو يلتقون بهم في مواسم الحج وأسواقه التي كانت تعقد لتبادل السلع، وتبادل الفكر، والكلم المحكم، ويكون التباري بين الشعراء والخطباء، وكانت مكة وما حولها تشبه بعض الحدائق العامة في البلاد الأوربية تلقى فيها الخطب، ويتبارى فيها المتكلمون، وحسبك أن تعلم أن قسَّ بن ساعدة الإيادي ألقى خطبته التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم في عكاظ في موسم الحج.
هؤلاء الذين كانت الكلمة البليغة تقع في نفوسهم موقع الموسيقى فتطربهم، والقصيدة الطويلة فتهزهم، وكان حداؤهم لإبلهم رجزًا، وتدليلهم لأبنائهم أنماطًا من البيان، هؤلاء هم الذين خاطبهم القرآن، فرأوا فيه نوعًا من البيان لم يعرفوه من قبل، فانجذبوا إليه، وأقروا بتأثيره، ولم يستطيعوا أن يماروا فيه، بل خروا صاغرين أمام بلاغته، معترفين بأنه يسمو على قدرهم، ويعلو على طاقتهم، كفروا بما يدعو إليه، ولم ينكروا تأثيره، لاحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد، وتماروا فيه مع بداهته، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من القرآن، ولما دبّروا وقدروا في أمره، قالوا: إنه سحر يؤثر، وذلك يتضمَّن الإقرار باستيلائه على نفوسهم، وعلوه على كلامهم، وإن كان من نوعه، وسموا معانيه، وإن كانت حروفه في صياغة من حروفهم وكلماتهم.

.وجوه الإعجاز البلاغي:

43 - إن كل شيء في القرآن معجز من حيث قوة الموسيقى في حروفه، وتآخيها في كلماته، وتلاقي الكلمات في عباراته، ونظمه المحكم في رنينه، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات، وكون كل كلمة لفقًا مع أختها، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته، وتوحد غايته، ومعانيه تجدها مؤتلفة مع ألفاظه، وكأن المعاني جاءت مؤاخية للألفاظ، وكأن الألفاظ قطعت لها، وسويت على حجمها.
ثم هو الذي يدركه كل ذي قوة فكرية بمقدار إدراكه، والمعنى صحيح في كل إدراك صحيح، وفي كل ذي طاقة سليم، بلا تخالف، يسمعه المؤمن فيقرّ به ويؤمن بما جاء فيه، ويسمعه المخالف فيدرك الحق من ثنايا كلماته ومعانيه إن أخلص في جانب الحق، وإن لم يؤمن فإنَّه يدرك ما في القرآن من خواصٍّ لا يصل إليها كلام كائنًا من كان قائله.
جاء في كتاب (الشفاء) للقاضي عياض: حكي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا هو برجل قائم على رأسه يتشهَّد شهادة الحق فاستخبره، فقال له: إني من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وإني سمعت رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأمَّلتها، فإذا قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52]، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين. فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق.
وهكذا نرى كل إعجاز القرآن من نواح شتَّى، ربما تعِزّ على الاستقراء، ففي موسيقاه لا يسمع سامعه إلَّا أن يصغي بقلبه، وقد رميت كيف كان العرب يتفقون على ألا يسمعوا لهذا القرآن، وبلغوا فيه، ثم يذهب إليه المتفقون فرادى فيلتقون جماعة.
ولقد كان لموسيقى القرآن ونظمه روعة عند كل سامع، حتى من لا يفهم العربية، فإنَّ لكلماته ونظمه ومده وغنه، ونهاية فواصله، ووقفه، ما يستعري من لا يفهم العربية، وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات فإنَّ النغم يعطيه صورًا رائعة، وإن كل كلمة من كلماته تعطي صورة بيانية، وكل عبارة تجتمع من كلمات لها صورة بيانية رائعة تصوّر المعاني كالصورة الكاملة في تصويرها، التي تتكون أجزاؤها من صور، وتتجمَّع من الصور صورة متناسقة.
وإنه لأجل هذا يصعب على الكاتب أن يأتي بكل وجوه الإعجاز البياني، ولكنه يقارب ولا يباعد.
ولنذكر ستة وجوه نتكلم فيها، عسانا نصل إلى تقريب معاني الإعجاز من غير حد ولا استقراء كامل وهي:
1 - الألفاظ والحروف.
2 - الأسلوب، وما يكون من صور بيانية.
3 - التصريف في القول والمعاني.
4 - النظم وفواصل الكلم.
5 - الإيجاز المعجز والحكم والأمثال والإخبار عن الغيب.
6 - جدل القرآن.

.1 - ألفاظ القرآن وحروفه:

44 - قبل أن نخوض فيما اختصَّت به ألفاظ القرآن الكريم من جمال ودقة وإحكام، وما اشتملت كل كلمة مع أخواتها وجاراتها من صور بيانية لكل واحدة منفردة، ثم اشتملت عليه مجتمعة من معنى ذلك، نذكر أنَّ العلماء اختلفوا قديمًا وامتدَّ خلافهم إلى المتأخرين، تكلَّموا واختلفوا في أساس الفصاحة أو البلاغة، وهما غير مختلفين في الماصدق، وإن اختلفوا في التعريف اللفظي لحقيقة الفصاحة وحقيقة البلاغة.
قال بعض علماء البيان وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني المتوفَّى سنة 471هـ: إن اللفظ والحروف ليس لهما أثر في كون الكلام بليغًا أو غير بليغ، إنما الأثر في مجموع ما يدل عليه النظم، وشكل النظم ليس هو المؤثر وحده، إنما تساوق المعاني وتلاقي الألفاظ وتآخيها، فيتكون هذا المعنى المؤثر، فيقول رضي الله عنه في كتابه (دلائل الإعجاز) ما نصه:
ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخلوها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضمِّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي مرسومة به، ثم يقول رضي الله عنه:
هل يقع في وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤاسنتها لأخواتها، وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافها قلقة ونابية ومستكرهة إلَّا وغرضهم أن يعبِّروا بالتمكُّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تلتق بالثانية في معناها، وأنَّ الثانية لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها، وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] فتجلَّى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة إلَّا لأمر يرجع إلى ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض، وإنه لم يعرض لها الشرف إلّا من حيث لاقت الأولى الثانية، والثالثة الرابعة، وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأن الفضل نتج مما بينها، وحصل من مجموعها، إن شككت فتأمل: هل ترى لفظة بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية، {ابْلَعِي} واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليه. ومعلوم أن مبدأ العظمة في الآية في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بيا دون أي. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعي الماء... إلى آخر ما قال.
ويستدل على أن الكلمة ليس لها فصاحة ولا بلاغة في ذاتها أنَّ الكلمة تروق في موضع، ولا تروق في آخر في كلام الناس، فلو كانت الكلمة إذا حسنت كان حسنها من ذاتها، لاستحسنت دائمًا، وما استهجنت أبدًا.
وينتهي من هذا إلى أنَّ جمال الكلام ليس في توالي ألفاظه في النطق، بل إن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.
ويسترسل الجرجاني في إثبات أنَّ الكلمات ليست لها فصاحة ذاتية، إنما بلاغتها في اجتماعها مع غيرها في تلاقي المعاني، وأنه ليس للألفاظ ولا للحروف حسن ذاتي منفرد، ولا قبح ذاتي منفرد، إنما حسنها في تلاقيها مع أخواتها في الدلالة وتساوق المعاني، وما تنتجه من صور بيانية، ومراتب أهل البيان في مقدار قدرتهم على اختيار الألفاظ المتآخية في معانيها، ويفهم من كلامه أنَّ النظم لا يلتفت إليه وحده، إنما يلتفت إلى معانيه أيضًا، وأنه يريد من النظم الكلمات لا ذات الكلام كله برناته القوية أو الهادئة التي تنساب في النفس، وتتغلغل فيها حتى تصل إلى أعماقها.
45 - هذا رأي الجرجاني، وله مقامه، يقصر البلاغة والفصاحة على الأسلوب ومجموع العبارات التي تتضافر في الدلالة على معانٍ متآخية، وتتآخى الألفاظ في الدلالة على هذه المعاني.
وهناك فريق آخر، ومن هؤلاء الجاحظ، يرون للحروف وللكمات فصاحة، عندما تتلاءم حروفها ولا تتجافى مخارجها، ولا يكون فيها تكرار، فلا فصاحة في مثل ما رواه الجاحظ.
وقبر حرب بمكان قفر ** وليس قرب قبر حرب قبر

فإنَّ تكرار الحروف جعلها غير متلائمة، وغير سهلة في النطق.
وقد عقد ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) فصلًا قيما ذكر فيه فصاحة الكلمات وقبحها، في رنينها وفي تآخي حروفها، وقال: إنَّ من الكلمات ما له نغمة أوتار، ومنها ما له صوت حمار، وضرب على ذلك الأمثال، فقال: إن كلمة السيف لها مرادف، وهو الخنشليل، فهل هما متماثلتان في الفصاحة والنغمة الصوتية، ومثل كلمة غصن، وكلمة عسلوج بمعنى الغصن، فهل هما متماثلتان في النغمة وسهولة النطق.
ويبدو من كتاب (إعجاز القرآن) للباقلاني أنَّه يرى أنَّ للكلمات ذاتها فصاحة خاصة، وأن تخيُّرها يدل على قدرة قائلها، وعلوّ بيانه، فإذا كانت المعاني البلاغية لجملة القول، ففي اختيار الألفاظ المتناسبة في موسيقاها، وفي نغمتها، وفي رنَّتها قوية أو هادئة على حسب المقام، فللفظ دخل في الاختيار. ويقول الباقلاني في ذلك:
قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسَّسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمَّن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأنَّ التفضال في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعاني، والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر.
ثم يقول:
وأنت ترى جمال الكلمة من القرآن يتمثّل في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جبينه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه.
ومن هذا النقل يتبين أنَّ الباقلاني يرى أن ألفاظ القرآن غرة في كل كلام، وأن لها رونقًا، وأنَّ لها دخلًا في إعجازه، وأنَّ صورة الكلمة ومخارج حروفها لها روعة ذاتية؛ لأن ذلك من عند العزيز الحكيم.
وإنَّ المتأخرين ممن كتبوا في إعجاز القرآن رأوا أنَّ في الكلمة في القرآن بلاغة خاصة بأدائها، بمدها وغنِّها، وبأصواتها الموسيقية، وبنغماتها الحلوة، فلا يمكن أن يكون التآخي بينها وبين أخواتها في المعاني فقط، بل إن التآخي كما هو ثابت في المعاني ثابت في الموسيقى، وإذا كان الله تعالى قد اختار للقرآن ترتيلًا يبدو فيه نغمه ومده، ورنين ألفاظه، فلا بُدَّ أن تكون ألفاظه قد اختيرت لمزية في كل كلمة لا في مجموعها فقط، ومن أنصار الرأي الذي نظر إلى فصاحة الكلمة الرافعي - رحمه الله تعالى، ورضي عنه - في كتابه (إعجاز القرآن) فقد قال:
لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانًا لغوية رائعة كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها في توقيعها، فلم يتفهَّم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إنَّ من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظمًا موسيقيًّا أو بابًا منه، وطوى عما وراء ذلك من التصرُّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنه فطن أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتَّفق ذلك في شيء من كلام العرب، إلَّا أن يكون وزنًا من الشعر أو السجع، وهو بهذا لا يرى رأي الجرجاني في أنَّ الكلمات ليس لها مزايا خاصة، والله أعلم.
46 - هذان رأيان يبدو أنَّهما متعارضان في كون فصاحة الكلمة جزءًا من البلاغة أو الفصاحة، وإن لم يكن بينهما فرق، فالأول لا ينظر إلى الجزء وهو الكلمة، بل لا ينظر إلا إلى المجموع المؤتلف، والآخر ينظر إلى الأجزاء وإلى المجموع معًا، بل لا يرى المجموع يكون بليغًا إلَّا إذا انتهى إلى ألحان مؤتلفة من حروف في كلمات متآلفة، وكلمات في أسلوب مؤتلف في نغماته وترتيله، وتناسق بيانه.
ولا شكَّ أن الكلمة وحدها من غير أن تكون في مجموعة ليس لها بلاغة ولا مؤدى، فكلمة شجر من غير أن تكون في كلام ليس لها مؤدَّى إلا أن تكون في جملة مفيدة تؤدي معنى، وتكون بحروفها وقوتها أو لينها متآخية مع أخواتها من الكلام، ولكن لا بُدَّ للكلمة مع الكلمات الأخرى من أن تكون متلاقية في لحن القول والمراد منه، وتحقيقه، فهي وحدها لا تؤدي منفردة، ولكن بضمها إلى أخرى يكون المعنى القوي، ويكون النغم الجميل، ويكون الترتيل الذي يملأ النفوس، وتطمئن به، وتقشعر منه الأبدان إن أنذر، وتهدأ إن بشر، وتتفكر العقول إن دعا إلى التأمل.
ومن أنصار هذا المذهب الخطَّابي المتوفَّى سنة 388هـ، فهو يقول في رسالته: واعلم أنَّ القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، متضمنًا أصح المعاني مع توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يرى في صورة العقل أليق منه.
وفي الحقيقة أنَّ الخطابي ينظر إلى الأسلوب على أساس أنَّ الألفاظ قوامه, وهي دعامة بنيانه، حتى إنَّ القرآن الكريم لو حاولت أن تنزع كلمة من جملة لتضع غيرها المرادفة لها لاختلَّ البناء واضطرب، وهو يقول في ذلك: اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإمَّا ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أنَّ في الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني، ويحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب.
وبهذا انتهى إلى أنَّ الألفاظ في الكلام البليغ لها مقصد خاص من المتكلم، إما لنغمتها وإما لمعناها أو هما معًا، ولا يكون مرادفها صالحًا لِأَنْ يحلَّ محلها.
47 - وكون كل كلمة لها لحن قائم بذاته لا نحسب أن الجرجاني ينكره، ولكن مذهبه البلاغي باعتباره من علماء البيان يجعله يتَّجه إلى العبارة المتآلفة، والأسلوب الذي تتلاقى معانيه، ولا يتجه ابتداء إلى الألفاظ، ولعلَّه أيضًا يقبل أن تكون الألفاظ متآخية النغم مؤتلفة الألحان متلاقية في الترتيل. وهو يقرره على أنَّه فرض مقبول فيقول رضي الله عنه في تلاؤم الحروف في الكلمات:
إن أخذنا بأن يكون تلاؤم الحروف في الكلمات وجهًا من وجوه البلاغة وداخلًا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة، لم يكن لهذا ضرر علينا؛ لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان، وأن تكون نظيرة لها، وفي عداد ما هو شبيههما من البراعة والجزالة، وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم، وعن المزايا التي شرحت لك أمرها، وأعلمتك جنسها، أو يجعلها اسمًا مشتركًا، يقع تارة لما تقع عليه تلك، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان، وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده، وإن تعسف متعسف في تلازم الحروف، فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز، وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزًا، كان الوجه أن يقال له: إنه يلزمك على قياس قولك أن يجوز أن يكون هنا نظم للألفاظ. وترتيب لا على نسق المعاني، ولا على وجه يقصد به الفائدة، ثم يكون مع ذلك معجزًا وكفى فسادًا.
وينتهي القول في هذا إلى أن الخلاف بين الجرجاني والخطابي والجاحظ وغيرهما يكون في أمرين غير جوهريين:
أولهما: إنَّ الجرجاني لا يعتبر للألفاظ جمالًا، وأنها في النظم تكون لنغماتها وألحانها مساعدات للمعاني، ولكنه يمنع منعًا مطلقًا، ونحن معه، أن تكون الألفاظ وحدها والكلمات منفردة سببًا للإعجاز، إنما الإعجاز يكون في أمور كثيرة؛ منها: تناسق الكلمات، وما تشعه من معانٍ وأخيلة بيانية في وسط أسلوب مكتمل البنيان يلتقي بنغمه وفواصله، وصوره البيانية، مع الألفاظ المحكمة، والمعاني السليمة التي لم يكن للناس عهد بها من قبل.